Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
علم بجدفلسفة العلم

علم بجد – مقال 3

ملامح المنهج التجريبي الاستقرائي

تطرقنا في المقال السابق لتعريف العلم، والفرق بين طرق الاستدلال (الاستقراء والاستنباط) .. ونكمل اليوم إن شاء الله الحديث عن ملامح المنهج التجريبي الاستقرائي.
على عكس ما يروج له إعلامياً، فإن طريقة الاستقراء وما يتعلق بها من قواعد المنهج العلمي التجريبي قد بدأت فعلياً من العالم الإسلامي، إذ يعزو الكثيرين بداية المنهج العلمي التجريبي إلى ابن الهيثم ومن عاصره من علماء المسلمين، وفي ذلك يقول عالم الأنثروبولوجيا والمؤرخ الفرنسي (روبرت بريفولت):
“إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي في مدرسة أوكسفورد على يد تلامذة معلمي العرب المسلمين في إسبانيا، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده (يقصد فرانسيس بيكون) الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي، فلم يكن بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلامي التجريبي إلى أوروبا المسيحية” [5]
ويضيف مؤرخ العلم الشهير (فلوريان كاجوري) في كتابه (تاريخ الفيزياء):
“إن علماء العرب والمسلمين هم أول من بدأ المنهج التجريبي ودافع عنه بجدارة، ذلك المنهج الذي يعد بحق مفخرة من مفاخرهم، فهم أول من أدرك فائدته وأهميته للعلوم الطبيعية، ويجيء على قمة روَّاد هذا المنهج ابن الهيثم” [6]
ويمكننا أن نلخص المنهج التجريبي الاستقرائي لابن الهيثم، ومن جاء بعده في مبادئ أساسية [7] هي:
1) النقد: دائماً ما كان الحسن بن الهيثم في منهجيته يقوم بنقد أفكار من سبقه من علماء والنظريات العلمية السابقة نقداً متوازياً وموضوعياً. فهو لا يتناول أي دراسة لهدمها، بل يبدأ في النقد والاستقراء من أجل التأكد من صحة المعلومات أو خطئها.
2) الاستقراء: الانتقال من الجزئيات إلى الكليات لتفسير الظواهر المختلفة، حيث الملاحظة هي عماد التجربة، والتجربة هي وسيلة التحقق في العلوم الطبيعية.
3) القياس: القياس المنطقي هو الاستنباط من المقدمات المعلومة. يفترض هذا المبدأ أن الحقيقة مستترة في المقدمات ويتم الكشف عنها من خلال القياس المنطقي والاستقراء العلمي الممنهج.
4) التمثيل: أو ما نسميه حالياً بالاختبار، هو البت في أمر النتائج القياسية بعد أن تتحقق بالتجربة أو المشاهدة.
كانت هذه المبادئ العامة هي المبادئ التي شكلت أحجار الزاوية في المنهج التجريبي منذ وقت ابن الهيثم، ومروراً بالثورة العلمية في أوروبا على يد علماء وفلاسفة مثل روجر بيكون، وفرانسيس بيكون وجاليليو، ونيوتن، وهيوم وغيرهم، وإلى وقت فلسفة العلوم الحديثة على يد كارل بوبر ومن بعده.
وقد وضعت هذه المدرسة شروطاً لكي تكون النظرية (البناء النظري) مقبولة أو علمية، وهي أن تكون فروضها ابتداءاً قابلة للاختبار – Testable وقابلة للتحقق – Verifiable، تبعاً لمبادئ الاستقراء والقياس والاختبار، فلا تكون النظرية علمية حتى يمكن رصد الظاهرة، وتكوين تعميم استقرائي أولي، ثم وضع الفروض للتيقن من الاستقراء، ثم التحقق من صحة الفروض وصولاً إلى إثباتها أو نفيها – وبالتالي إثبات أو نفي النظرية – وإعادة التجربة والتكرار.
ولعل السؤال المطروح دائماً في هذا المجال هو: أي طرق الاستدلال هي الأوثق في الوصول لنتيجة صحيحة، الاستنباط أم الاستقراء؟ وهل الطريقتان متضادتان أم متكاملتان؟
إن الفلاسفة العقلانيون وبعض الفلاسفة التجريبيون كذلك، بما في ذلك رواد الفلسفة الحديثة وفلسفة العلوم مثل (كارل بوبر) يعتبرون الدليل الاستنباطي هو أوثق طرق الاستدلال للوصول إلى المعرفة، فإذا صحَّت المقدمات والكليات، لزم من ذلك أن تصحَّ النتائج المستنبطة منها بالضرورة.
وأعلى هذه الاستنباطات هي الاستنباطات العلية، والرياضية.
فإن علم الرياضيات مثلاً يعدُّ من أصح العلوم العقلية لقيامه على جملة من البديهيَّات القطعية والمسلَّمات الرياضية، التي تُبنى عليها النتائج والاستنباطات بعد ذلك.
لكن المدقق في هذا النقاش سيجد أن الأمر الأكثر إثارة هو أن مبدأ الاستقراء التجريبي نفسه غير تجريبي!
إن الفلاسفة التجريبين قد افترضوا مبدأ الاستقراء نفسه كمسوغ وضامن لصحة وصدق ما نقوم به من عمليات استقرائية تشمل جزئيات محدودة هنا وهناك وصولاً إلى قواعد كلية عامة.
بعبارة أخرى، لقد “استنبطنا” بناءاً على مقدمات بديهية ضرورية، كالعلية، وعدم التناقض، والاطراد، أن العقل البشري باستطاعته أن يدرك الأشياء من حوله، وأن يدرس الظواهر وجزئياتها وأسبابها، ثم يعمم تلك الجزئيات وصولاً إلى قواعد عامة وكليات.
لقد سَلَّمَ العلماء في الواقع أن التجريب يمكنه أن يصل إلى الحقيقة، دون أن يجربوا ذلك، ودون أن يستقرئوا هذا المبدأ الأساسي بالحس والتجربة!
ولو سلمنا جدلاً أنهم قد وصلوا إلى مبدأ الاستقراء عن طريق الحس والتجربة، فإن ذلك يوقعنا لا محالة في الاستدلال الدائري، إذ كيف تستدل على صحة الشيء بما تحاول استنتاجه؟
إن عامة العلوم الطبيعية، أو التي تنسب إلى نفسها أنها علوم طبيعية، تقوم على الاستقراء كطريقة أساسية للاستدلال، على الرغم من أن فلاسفة العلوم قد هاجموا الاستقراء كوسيلة للوصول إلى المعرفة، ومنهم فيلسوف العلوم الأشهر (كارل بوبر) الذي هاجم استخدام الاستقراء، وحاول وضع قواعد وحدود مختلفة يمكن بها تمييز العلم الحقيقي من العلم الزائف Pseudo-Science.
سنعرض في المقال القادم إن شاء الله .. وسيكون مقالاً أطول، وجهة نظر كارل بوبر، ومدرسته، في مسألة الاستقراء وهل يمكن اعتباره أصلاً وسيلة صحيحة للاستدلال أم لا.
المصدر
5) Robert Briffault, The making of Humanity (Londres, 1919), P.2006) lorian Cajori, 1917, A History of Physics in Its Elementary Branches, Macmillan7) مصطفى نظيف، 2008، الحسن بن الهيثم: بحوثه وكشوفه البصرية، مركز دراسات الوحدة العربية

أشرف قطب

حاصل على بكالوريوس العلوم في تخصص الكيمياء الحيوية من جامعة بنها في مصر، وماجستير العلوم في إدارة نظم المعلومات، وماجستير الإدارة في تخصص إدارة المعلومات، وماجستير العلوم في إدارة النظم الهندسية، من جامعة ليستر في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى